فصل: تفسير الآية رقم (108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما قراءة ابن سيرينَ، فانتصابُها على المَدْحِ، ولا يجوزُ فيها الجَرُّ؛ لأنه: إمَّا على البدل، وإمَّا على الوصْف بجَمْعٍ، والأوْلَيَيْنِ في قراءته مثنًّى، فتعذر فيها ذلك، وأمَّا قراءة {الأوْلَيْنَ} كالأعلَيْنَ، فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذَّة لم يَعْزُها، قال: {ويُقْرَأ} الأوْلَيْنَ «جمع الأوْلَى، وإعرابه كإعراب الأوَّلينَ» يعني في قراءة حمزة، وقد تقدَّم أن فيها أربعةُ أوجه، وهي جارية هنا.
قوله: {فَيُقْسِمَانِ} نسقٌ على {يَقُومَانِ} والسببيَّةُ ظاهرٌة، و{لشَهَادَتُنَا أحَقُّ}: هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله: {فَيُقْسِمَانِ}.
فصل في معنى الآية:
ومعنى الآية: فإن حصل العُثُور، والوقوف على أنَّهُمَا أتيا بِخِيَانة، استَحَقَّا الإثم بسبَبِ اليَمِينَ الكَاذِبَة، أو خِيَانَة في المَالِ، قام في اليَمِين مقَامَهُما رَجُلانِ من قرَابَة الميت، فَيَحْلِفَان باللَّهِ لقد ظَهَرْنا على خَبرِ الذِّمِّيَّين، وكذبهما وتَبْدِيلهما، وما اعْتَدَيَنْا في ذلك وما كَذبْنَا، وهو المُراد بقوله: {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم}، والمُرَادُ به موالِي الميِّتِ، قال ابنُ الخطيب: وقد أكثر النَّاسُ في أنَّهُ لِمَ وصف موالِي الميِّتِ بهذا الوَصْفِ؟ والأصَحُّ عندي فيه وَجْهٌ: وهو أنَّهُمْ إنَّما وُصِفُوا بذلك؛ لأنَّهُ لمَّا أخَذَ منهم مَالَهُمْ، فَقَدْ استَحَقَّ عليهم مَالَهُمْ، فإن أخَذَ مال غيره، فقد حاولَ أن يكون تَعَلُّقُهُ بذلك المَالِ مُسْتَعْلِيًا على تَعَلُّق مالكه به، فصحَّ أن يوصف المَالِكُ بأنَّه قد استَحَقَّ عليه ذلك المال، وإنما وَصَفهُمَا بأنَّهُما أولَيَان لِوَجْهَيْن:
الأول: معنى الأوليان: الأقْرَبان إلى الميِّت.
الثاني: يَجُوزُ أن يكُون المَعْنَى الأوليان باليَمينِ؛ لأن الوصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ الميِّت قد باعَ الإنَاء الفِضَّة، فانْتَقَلَتِ اليَمِينُ إلى موالي الميِّت؛ لأنَّ الوَصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ مُورثَهُمَا باعَ الإنَاء، وهما أنْكَرَا ذلك، فكان اليَمِينُ حقًّا لهما؛ لأنَّ الوَصِيَّ إن أخَذَ شيئًا من مال الميِّت، وقال: إنه أوْصَى لِي به حَلَف لِلْوَارِثِ إذا أنْكَرَ ذلك، وكذا لو ادّعَى رجُلٌ سِلْعَةً في يدِ رجلٍ فاعْتَرَفَ، ثمَّ ادَّعى أنَّهُ اشْتَراها من المدَّعِي، حلف المُدَّعِي أنَّه لم يَبِعْها منه، وهذا كما لو أنَّ إنْسَانًا أقَرَّ لآخر بِدَيْنٍ، ثم ادّعى أنه قَضَاهُ، حُكِمَ بِرَدّ اليمينِ إلى الذي ادّعى الدَّيْن أوَّلًا؛ لأنَّه صارَ مُدَّعىً عليه أنه قد اسْتَوْفَاه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (108):

قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تم هذا على هذا الوجه الغريب، بين سبحانه سرَّه فقال: {ذلك} أي الأمر المحكم المرتب هذا الترتيب بالأيمان وغيرها {أدنى} أي أقرب {أن} أي إلى أن {يأتوا} أي الذين شهدوا أولًا {بالشهادة} أي الواقعة في نفس الأمر {على وجهها} من غير أدنى ميل بسبب أن يخافوا من الحنث عند الله بعد هذا التغليظ {أو يخافوا} إن لم يمنعهم الخوف من الله: {أن ترد} أي تثنى وتعاد {أيمان} أي من الورثة {بعد أيمانهم} للعثور على ريبة فيصيروا بافتضاحهم مثلًا للناس، قال الشافعي: وليس في هذا رد اليمين، فما كانت يمين الداريين على ما ادعى الورثة من الخيانة، ويمين ورثة الميت على ما ادعى الداريان مما وجد في أيديهما وأقرا أنه مال الميت وأنه صار لهما من قِبَله، فلم تقبل دعواهما بلا بينة، فأحلف وارثاه، قال: وإذا كان هذا كما وصفت فليست الآية ناسخة ولا منسوخة لأمر الله بإشهاد ذوي عدل ومن نرضى من الشهداء، هذا ما اقتضى إيلاؤها لما قبلها، وقد نزعها إلى مجموع هذه السورة مَنازع منها ما تقدم من ذكر القتل الذي هو من أنواع الموت عند قصة بني آدم وما بعدها، ثم تعقيب ذلك بالجهاد الذي هو من أسباب الموت، وقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45]، ثم ذكره أيضًا في قوله تعالى: {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} [المائدة: 54] وقد جرت السنة الإلهية بذكر الوصية عقب مثل ذلك في البقرة، ولم يذكر عقب واحدة من الآيات المذكورة لزيادتها على آية البقرة بمنازع منها الحلف، فناسب كونها بعد آية الأيمان، ومنها تغليظ الحلف والخروج به عما يشاكله من القسم على المال بكونه في زمان مخصوص بعد عبادة مخصوصة، فناسب ذكرها بعد تغليظ أمر الصيد في حال مخصوص وهو الإحرام والخروج به عن أشكاله من الأحوال وبعد تغليظ جزائه والخروج به عن أشكاله من الكفارات وتغليظ أمر المكان المخصوص وهو الكعبة والخروج بها عن أشكالها من البيوت، وكذا تغليظ الزمان المخصوص وهو الشهر الحرام والخروج به عن أشكاله من الأزمنة.
وكل ذلك لقيام أمر الناس وإصلاح أحوالهم، وهكذا آية الوصية وما خرج من أحكامها عن أشكاله كله لقيام الأمور على السداد وإصلاح المعاش والمعاد، وهي ملتفتة إلى أول السورة إذا هي من أعظم العهود، والوفاءُ بها من أصعب الوفاء، وإلى قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] وإلى قوله تعالى: {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} [المائدة: 8] انظر إلى ختمها بقوله: {إن الله خبير بما تعملون} وإلى كون هذه في سياق الإعلام بأن الله عالم بالخفيات، وقوله:- عطفًا على ما تقديره: فالزموا ما أمرتكم به وأرشدتكم إليه تفلحوا: {واتقوا الله} أي ذا الجلال والإكرام إلى آخرها- ملتفت إلى قوله: {وميثاقه الذي واثقكم به} [المائدة: 7]- الأية، أي خافوا الله خوفًا عظيمًا يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية لئلا تحلفوا كاذبين أو تخونوا أدنى خيانة {واسمعو} أي الموعظة سمع إجابة وقبول ذاكرين لقولكم {سمعنا وأطعنا} [البقرة: 285] فإن الله يهدي المتمسكين بالميثاق {والله} أي الذي له الكمال كله وتمام الحكمة وكمال العزة والسطوة {لا يهدي القوم} أي لا يخلق الهداية في قلوب الذين لهم قدرة على ما يحاولونه {الفاسقين} أي الذين هم خارجون، أي من عادتهم ذلك على وجه الرسوخ، فهم أبدًا غير متقيدين بقيد ولا منضبطين بدائرة عقد ولا عهد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَا أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم}.
والمعنى ذلك الحكم الذي ذكرناه والطريق الذي شرعناه أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، وأن يأتوا بالشهادة لا على وجهها، ولكنهم يخافون أن يحلفوا على ما ذكروه لخوفهم من أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم، فيظهر كذبهم ويفتضحون فيما بين الناس.
ثم قال تعالى: {واتقوا الله واسمعوا والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين}.
والمعنى اتقوا الله أن تخونوا في الأمانات واسمعوا مواعظ الله أي اعملوا بها وأطيعوا الله فيها والله لا يهدي القوم الفاسقين، وهو تهديد ووعيد لمن خالف حكم الله وأوامره فهذا هو القول في تفسير هذه الآية التي اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعرابًا ونظمًا وحكمًا، وروى الواحدي رحمه الله في «البسيط» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام.
والحكم الذي ذكرناه في هذه الآية منسوخ عند أكثر الفقهاء والله أعلم بأسرار كلامه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ذلك أدنى} أي: ذلك الذي حكمنا به من ردّ اليمين، أَقرب إِلى إِتيان أهل الذّمّة بالشهادة على وجهها، أي: على ما كانت، وأقرب أن يخافوا أن تردَّ أيمان أولياء الميت بعد أيْمانهم، فيحلفون على خيانتهم، فيفتضحوا، ويغرموا، فلا يحلفون كاذبين إِذا خافوا ذلك.
{واتقوا الله} أن تحلفوا كاذبين، أو تخونوا أمانةً، واسمعوا الموعظة. اهـ.

.قال ابن عطية:

الإشارة بـ{ذلك} هي إلى جميع ما حد الله قبل من حبس الشاهدين من بعد الصلاة لليمين، ثم إن عثر على جورهما ردت اليمين وغرما. فذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل، لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين، هذا قول ابن عباس رحمه الله، ويظهر من كلام السدي أن الإشارة بـ{ذلك} إنما هي إلى الحبس من بعد الصلاة فقط، ثم يجيء قوله تعالى: {أو يخافون أن ترد أيمان} بإزاء {فإن عثر} [المائدة: 107] الآية، وجمع الضمير في {يأتوا... أويخافوا} إذ المراد صنف ونوع من الناس، و{أو} في هذه الآية على تأويل السدي بمنزلة قولك تجيئي يا زيدًا أو تسخطني كأنك تريد وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية، ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الإيمان، وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا وأقرب إلى أن يخافوا، وقوله تعالى: {على وجهها} معناه على جهتها القويمة التي لم تبدل ولا حرفت، ثم أمر تعالى بالتقوى التي هي الاعتصام بالله وبالسمع لهذه الأمور المنجية، وأخبر أنه لا يهدي القوم الفاسقين، من حيث هم فاسقون، وإلا فهو تعالى يهديهم إذا تابوا، ويحتمل أن يكون لفظ {الفاسقين} عامًا والمراد الخصوص فيمن لا يتوب. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم} أي ذلك الحكم السابق ولما كان الشاهدان لهما حالتان: حالة يرتاب فيها إذا شهدا، فإذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة في الآية قوبلت هذه الحالة بقوله: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} أي على ما شهدا حقيقة دون إنكار ولا تحريف ولا كذب، وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف، فإذ ذاك لا يلتفت إلى أيمانهم وترد على شهود آخرين فعمل بأيمانهم وذلك بعد حلفهم وافتضاحهم فيها بظهور كذبهم قوبلت هذه الحالة بقوله: {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم} وكان العطف بأو لأن الشاهدين إذا لم يتضح صدقهما لا يخلوان من إحدى هاتين الحالتين إما حصول ريبة في شهادتهما وإما الاطلاع على خيانتهما فلذلك كان العطف بأو الموضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فالمعنى ما تقدّم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي أو خوف رد الأيمان إلى غيرهم فتسقط أيمانهم ولا تقبل.
قال ابن عباس ذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ثم يخافون الفضيحة ورد اليمين انتهى.
وقيل ذلك إشارة إلى تحليف الشاهدين في جمع من الناس.
وقيل إلى الحبس بعد الصلاة فقط.
قال ابن عطية ويظهر هذا من كلام السدّي وأو على هذا التأويل بمنزلة قولك تحبني يا زيد أو تسخطني كأنك قلت وإلا أسخطتني فكذلك معنى الآية {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الأيمان} وأما على مذهب ابن عباس فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا أو أقرب إلى أن يخافوا انتهى.
فتلخص أن {أو} تكون على بابها أو تكون بمعنى الواو، و{يخافوا} معطوف في هذين الوجهين على {يأتوا} أو يكون بمعنى إلى أن كقولك لألزمنك أو تقضيني حقي وهي التي عبر عنها ابن عطية بتلك العبارة السابقة من تقديرها بشرط محذوف فعله وجزاؤه، وإذا كانت بمعنى إلى أن فهي عند البصريين على بابها من كونها لأحد الشيئين.
إلا أن العطف بها لا يكون على الفعل الذي هو يأتوا لكنه يكون على مصدر متوهم وذلك على ما تقرر في علم العربية، وجمع الضمير في يأتوا وما بعده وإن كان السابق مثنى فقيل هو عائد على الشاهدين باعتبار الصنف والنوع، وقيل لا يعود إلى كليهما بخصوصيتهما بل إلى الناس الشهود والتقدير ذلك أدنى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي.
{واتقوا الله واسمعوا} أي احذروا عقاب الله تعالى واتخذوا وقاية منه بأن لا تخونوا ولا تحلفوا به كاذبين وأدوا الأمانة إلى أهلها واسمعوا سماع إجابة وقبول.
{والله لا يهدي القوم الفاسقين} إشارة إلى من حرّف الشهادة أنه فاسق خارج عن طاعة الله فالله لا يهديه إلا إذا تاب، فاللفظ عام والمعنى اشتراط انتفاء التوبة. اهـ.